الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة انتصاب أسود... وأشياء أكثر فداحة

نشر في  21 مارس 2016  (10:25)

بغداد- حسن جوان

تكمن شعرية الكتابة الجديدة عبر مواجهة الواقع بصراحته لا بموارباته، فيما تنزاح وتتكثّف في بُؤر جديدة أكثر بساطة ومباشرة، متّكلة بغالب ثقلها على روح السّارد، لا على التِقانة بمفردها. هذه قد تكون إحدى الخلاصات التي تفضي إليها القراءة الشاملة والمبتعدة قليلاً عن زمن التأثّر الذي يعقب مطالعة أعمال متوهّجة، وساخنة مثل أعمال الروائي التونسي أيمن الدبوسي.

تمتاز تلك الأعمال الروائية بتناول جديد وجاذب لا بقواه النّافرة والموصوفة بالبورنوغرافية، لكن بقولها وعرضها ما يُقال ويحدث بشكل يومي في كل عوالمنا، الذي تُشكل مصحّاته -كما في نصّه أخبار الرّازي- أو في انتصاباته السُّود وغيرها من الألوان -كما في روايته انتصاب أسود- والصّادرة مؤخّراً عن منشورات الجمل بلبنان.

لقد اختار أيمن -وهو الأخصّائيّ النفسانيّ- حافّتين تنشط فيهما غرائز الحياة في مقابل حواف أخرى تشهر تهديدها بالفناء. ففي الحرب والثورة، كما في المشافي أيضاً تتعاظم الرّغبة في التّناسل... الجنس... والحبّ والجنون، إلى حُدود تنحسر إزاءها أيّ تبريرات معنويّة أخرى قد توقف من ذلك الدّفق والهِياج الغرائزي الشامل.

إذن فالمسرحين في عملي الدبّوسي، آنفي الذّكر، توسّلا وسطين جاهزين لسلوك فائح الرائحة والحمّى... وممكنين بجدارة لانطلاق خطوط السرد ببراعة نحو تفسير العوالم المتحرّكة بعنف من خلالهما.

 ثورة جنسية... وعلاج جنسي... كَسْرَيْنِ في جدران النظامين الجسديّ والذهنيّ المُصابين بنوع من القهر -الخصاء- طوال سنوات من القمع، على أنّ التوازي في التعبير عن ذلك أخذ أشكال أسئلة مُسرفة غير منضبطة، أو خارجة عن أيّة منظومة سابقة، على إثر تحرّرها الدّفعي.

إستساغة البذاءة، وتقبّلها كوصف لا كشتيمة، هي إحدى براعات السياق الذي تحسن السباحة فيه أسلوبيّة السّرد لدى أيمن الدبّوسي، فهو يخدعك بمنظومة جديدة من العلاقات لا تتدارك أنّك أصبحت جزءاً منها، ومن تقبّل قوانينها بما أنّك لست قارئاً مُجرّداً، وإنّما مشاركاً داخل كادر المشهد المليء بالمنيّ وحفلة الأجساد المتشابكة، وروائح الخمرة المسكوبة على أرضيّة الغرفة.

ورطة القراءة تلك لا خلاص منها سوى تسليم مهمة التأويل لمباضع أخرى أقل إنسانية، وترك حواسك مأسورة بتلك الحمّى التي لا تعنيك.. لكنّك متورّط بمتابعها حتى آخر مكيدة تتقبلها طواعية.

لا توجد خطوط حُمر في مناخات أيمن، فهو في أحد فخاخه، يُقدم على تحطيم أعتى العُقد العربية على مرّ التأريخ: السُّلطة والجنس. فها هو يروي العالم الداخلي لكل حريّات الجسد بأسمائها التي تقولها سراً، ويطلق بموازاة ذلك زمناً جديداً من الثورة التي بدأها بلده تونس، وعاش بواكيرها وانعطافاتها ونقاشاتها والإلتفاف عليها أيضاً.

لكنه لا يقف بالقارئ عند حدود خيبات الحرية، ولا عند نهاية الذروة الجنسية، هو يقترح مناخاً مغايراً، حُلميّاً، أو ربّما مغرقاً في واقعيّته، شرط أنه يبقي على الشجاعة واليأس معاً مُدوّمين عند تخوم اللذّة. هل كان كل ذلك إباحياً، متجاوزاً على أخلاقيات ما، فتحاً جديداً في مناطق الإشتغال الروائي، متنفساً لما كان سرّياً ويومياً... دفعاً مبتكراً نحو آفاق نتأمّل أن لا تكون موضع كتمان؟؟

ليست المهمّة كما أعتقد تكمن في الإجابة على أيٍّ من تلك التساؤلات... بقدر ما هي مراجعة ذواتنا ونحن نتقدّم بقراءة كل فصل من فصول الرّواية ذات الأبنية المتماسكة والآسرة في ثيماتها. هي وريقات تنفتح لا على مشاهد عابرة وواصفة، بقدر ما هي كاشفة لحياة بأكملها لا لزوايا محددة منها.

عمل ممتع لمن يتسلّح بوعي مضاد لما تستبطنه الأنظمة الإجتماعية والسياسية أيضاً من بنى قاهرة وقامعة. عمل هدام بامتياز، لا لابتكار فوضى بل لمراجعة صدأ العالم ورؤية تصدّعاته الفعلية، لكن بطرق احتفالية صاخبة.